الشعوب التي تفرض عليها مواجهات تاريخية أو تحديات خارجية يجب أن تعنى بجبهتها الداخلية وإلا خسرت المواجهة مع التحدي الخارجي، ولعل القران الكريم وهو يتحدث عن الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس، ربط هذا الجهاد وبين ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع من متانة جبهته الداخلية، يشير إلى هذا قوله تعالى {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }.
بعد ذلك يستطرد القران مستعرضاً ملامح المجتمع الذي تمثله هذه الفئة التي تجاهد بأموالها وأنفسها، في قوله تعالى {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }.
فهذه ملامح الجبهة الداخلية التي ينبغي أن تدعم الفئة التي قُدّر عليها أن تواجه التحدي الخارجي، أو أن تخوض المواجهة التاريخية مع أعدائها، فهي جبهة ليست مفرغة من مضامين الوحدة وقيم العزة والعدالة والكرامة، بل هي جبهة متماسكة تائبة عابدة حامدة راكعة ساجدة آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر، وتكرر هذا المعنى أيضا في قوله تعالى في سورة المائدة وهو يتحدث عن الفئة المختارة والمدخرة لمواجهة التحولات التي ستطرأ على المجتمع الإسلامي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}.
وإذا لم تكن الجبهة الداخلية على مستوى المواجهة، لا تكون النتيجة في صالحها، والقران يؤكد أن انتصارنا في جبهتنا الداخلية مرتبط بانتصارنا في الجبهة الخارجية، وان انتصارنا هناك مرهون بمتانة وقوة جبهتنا الداخلية فلا ينبغي أن يشغلنا همّ عن همّ، وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وبينما جيوشه تخوض أشرس المعارك على الجبهة الفارسية في بلاد الرافدين، وكذلك على الجبهة الرومانية في مصر والشام ,كان الرجل يقيم العدل في قلب الجزيرة العربية، ويرد المظالم إلى أهلها، هناك ارتباط وثيق بين إحقاق الحق وإقامة العدل، وأداء الأمانات، وتمتع المواطنين بحقوقهم في المجتمع، وبين تحقيق الانتصار في الجبهة الخارجية.
وتذكر كتب التاريخ عن القائد الفرنسي الشهير نابليون,أنه عندما كان يخوض أشرس معاركه في روسيا، كان منكباً على التخطيط لتنوير شوارع باريس!!
من هذه البوابة ندخل إلى بعض مشكلات جبهتنا الداخلية ومن أهم واخطر مشكلاتها وآفاتها التي نلمحها في الأفراد والجماعات، ونلمحها في القيادات وفي القاعدة، آفة عدم الاعتراف بالخطأ... فالكل يصر على موقفه، لا يعترف احد بخطئه، ليس هذا فحسب بل لا يعترف بالخطأ والشماعات جاهزة لتعليق الأخطاء عليها، لا يعترف احدنا بالأخطاء ويصر عليها, فإذا ما حاصرته الأدلة،علق هذه الأخطاء على الخارج أو على شماعات أخرى
. ويلاحظ أن قياداتنا بالذات لا تحب من يواجهها بمشكلاتها أو مشكلات المجتمع، بل هي تكرهه وتحقد عليه وتتهمه بأنه إمّا انه واقع تحت هواجس، وإمّا أنه خصم لديه طموح خاص يسعى إليه، وهذا من وجهة نظري نوع من الإسقاط، يسقطون ما في أنفسهم على الآخرين, لأن هذه القيادات هي التي تغلب طموحاتها الشخصية والحزبية على مصالح الأمة والدين والوطن.
إذا لابد أن يكون لنا القوة والجرأة للاعتراف بأخطائنا أ ونقاط ضعفنا والعمل على التغلب عليها، ولقد قرأت كلمة حكيمة يقول صاحبها: إنّ الشعوب التي لا تبصر بعيونها تحتاج إلى هذه العيون لتبكي بها كثيرا. إن الذي يعطل وسائل البحث وأدوات المعرفة لديه، لابد أن يبكي كثيرا، ولقد بكينا كثيراً، بكينا بغداد يوما ما وبكينا القدس, وبكينا الأندلس قبل قرون ولعلكم تذكرون الموقف الشهير عندما خرج الملك الأخير من ملوك الأندلس وهو يسلم مفاتيح غرناطة أو اشبيلية للفرنجة, انحدرت دموعه عل خديه, فرأته أمه وقالت له: ابك كالنساء ملكا مُضاعاً، لم تصنه صون الرجال!
والقران الكريم حدثنا عن المسلمين بقيادة النبي (صلى الله عليه وسلم) ماذا كان مصيرهم عندما استولى عليهم الإعجاب، فقال جل جلاله { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ }.
وعندما نعود إلى كهفنا الحصين، وملاذنا الأمين، إلى كتاب الله، نجد أن القرآن شخّص أمامنا نموذجين: نموذج الإصرار على الخطأ والإعجاب بالذات وكيف كانت النهاية، ونموذج آخر يقر بذنبه ويطلب مغفرة ربه.
الأول يمثله إبليس الذي أصرّ على خطئه، وتهرب من تحمل المسؤولية كما يتهربون!! { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } انه منطق العنصرية والتميز والحرص على الأفضلية - أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين- والشيطان يخاطب الله تعالى ويقول {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي } ولاحظ هنا أن الشيطان لا ينسب الغواية إلى نفسه إنما يحيلها إلى هناك {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ }. كما عرض لنا القران نموذج الطغيان السياسي ممثلا ًفي فرعون، الذي ما كان يقبل الرأي الأخر {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} والذي كان يوزع الاتهامات على كل من يخالفه الرأي، وعلى كل من يعارضه { إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } ومنْ الذي يظهر الفساد؟ موسى عليه السلام !! هل هناك غرور أبشع من هذا الغرور؟!
وهناك نموذج الطغيان المالي الذي يعرضه القرآن ويمثله قارون، عندما ذكره قومه بالآخرة وقالوا له { لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } لكن قارون انتفش وانتفخ و {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي } يقول هذا المغرور إنما هي إمكاناتي وجهدي!!! ويا له من غرور بشع أيضاً، فكانت نهايته نهاية مخزية {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ }.
ولقد شخص القرآن الكريم نموذجاً أخر من أصحاب الغرور الذين لا يعترفون بأخطائهم، عندما قال { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ } لاحظ قوله ويهلك الحرث والنسل بمعنى انه يتسبب في إحداث فساد اقتصادي واجتماعي{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ }.
وهذه مصيبتنا كعرب وكمسلمين -للأسف الشديد- إنما نرى أعدائنا يحاسب بعضهم بعضاً وينتقد بعضهم بعضاً, يتكلمون باسم الشعب, لكنهم لا يأنفون من المثول أمام محكمة الشعب. أما نحن فنتكلم ليل نهار عن شعبنا المناضل وعن شعبنا المجاهد وعن شعبنا الصابر لكن المسافة شاسعة بين المتحدثين، وبين هذا الشعب!
المجتمع الإسلامي مجتمع متراحم، جبهته حيه مستيقظة، تروج فيها ثقافة المطالبة بالحقوق، وتروج فيها ثقافة النقد والإقرار بالخطأ من خلال إعلان التوبة والاستغفار وتأنيب ومحاسبة النفس.
ولقد عرض القران النموذج الآخر في مقابل نموذج إبليس، نموذج ادم وحواء { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا}، ولعلك تدرك الفرق بين قول ادم وحواء { ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } وقول إبليس {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي } ومن بعد ادم(عليه السلام)، واصل الأنبياء العظماء السير على طريق أبيهم، طريق الإنابة والاستغفار والإقرار ومحاسبة النفس، فالنبي نوح يقول لربه {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ }، ويونس(عليه السلام) يسبح في بطن الحوت، ويرجع إلى نفسه بالمحاسبة والعتاب { وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }، وأبو الأنبياء خليل الرحمن قال { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ }، وموسى عليه السلام بعد أن سقى للمرأتين { فسقى لهما ثم تولى إلى الظل قال ربي إني لما أنزلت إلي من خير فقير} لم يدفعه أداء الواجب إلى الغرور، بل أحس وهو في قمة أداء الواجب بالافتقار إلى الله تعالى.
إنّ الصراع الدائر بين بعض الاتجاهات وبعض القوى, هو في أهم جوانبه صراع على ما يظنه كل فريق انه حق له, ونسي كل فريق ما يجب عليه القيام به، والقرآن يردنا إلى الصواب {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ }، فلا تبالغوا في الاهتمام بما هو لكم أو تظنونه استحقاق لكم! لكن فكروا في واجبكم، وما هو واجبكم يا سادة ؟ إن واجبكم هو في قوله تعالى { فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } هذا واجبكم المناط بكم، فلا تلهثوا ولا تتراكضوا على ما تظنونه حق لكم.
ن