في
الوقت الذي أعلن فيه أصحاب الأوسمة والنياشين هزيمة جيوشهم وتقهقر قدراتهم
العسكرية أمام الجيش الإسرائيلي وولوا هاربين من ارض المعركة تاركين
فلسطين في قبضة المحتل الذي عرف كيف ينتصر على جنرالات البروتوكولات
واضطهاد الشعوب العربية اللذين قتلوا فرحتها وكرامتها وانتهكوا حقها في
إعادة الاعتبار وحشدوا لها كل أجهزة الأمن كي تسكت ليختبئوا بهزيمتهم
وضعفهم ويستروا بالصمت عيوبهم بلا خجل وهم يتركون ارض القداسة ، ارض كنعان
تسقط في أيدي الاحتلال الذي أراد لها الموت لإسقاطها من الذاكرة والذهاب
بها الى طي النسيان بعدما سيطر بالكامل عليها وهجّر سكانها وشردهم من
قراهم ومدنهم الى مخيمات اللجوء في الشتات والمنافي ووضعهم تحت حكم بوليسي
مختلف حاربهم طويلاً وزج بهم في المعتقلات والسجون وحاول إبعادهم عن
فلسطين التي ظلت حاضرةً كحضور الشمس وحضور القمر فيهم وحقٌ أكيد يأبى فكرة
النسيان ويرفض الخضوع أمام المؤامرات الكبرى التي استهدفت كيانه وحقه
بالوجود التاريخي والطبيعي فوق أرضه فكانت فتح تبشر لزمان النصر القادم من
عيون الفدائيين بكوفيتهم السمراء ، العائدين الى الوطن من عيلبون وهم
يقودون معارك التحرير و الانتصار ويحققون البطولات ويعيدون كرامة العرب
التي سبتها مماليك الاستعمار الذين تكالبوا على فلسطين مثلما فعلوا
بشعوبهم بالاضطهاد والعزلة والقهر .
انهزموا هُم ، إلا الذين التحقوا بركب
الثورة وضمدوا جراح الهزيمة وانطلقوا بثورتهم فاتحين نحو فلسطين رجالا
غيروا حروف التاريخ المزورة واستبدلوها بحروف من نور ونار وشطبوا هزيمة
وانكسار الآخرين بالانتصار الذي تحقق على أيدي طلائع الفدائيين الذين
أسسوا نواة العمل الفدائي وانطلقوا فكان الفاتح من كانون عام 1965 يوماً
أعاد فلسطين الى الحضور ، وغير شكل شعبها الذي كانوا قد اعتادوا عليه
متسولاً على أبواب هيئات الأمم وفي خيام التشرد واللجوء ليصبح ثائراً
بالبندقية والعلم ويعلن انطلاق مشروعه الكفاحي في زمن المستحيل ، رافضاً
العيش بالهزيمة ، فكانت فتح بوابة العائدين الى الوطن ترسم بعنفوان
العاصفة إشراقه الفجر القادم وهي تجمع طلائع الفدائيين الى طريق واحد هو
طريق الثورة المقدسة الى فلسطين.
لقد استطاعت فتح بطلقة واحدة أن تسقط
المؤامرات الكبرى و تعيد الأمل الى روح الجماهير الوطنية التي سرعان ما
التفت حولها ودخلت في صفوفها والتحقت في خلاياها العسكرية خاصة بعدما حققت
الانتصار الكبير في معركة الكرامة لتعيد للأمة اعتبارها وكرامتها وتسقط
هلامية الجيش الذي لا يقهر وأسطورة القوي الذي لا يهزم ، بطلقة واحدة
استطاعت فتح أن تحول الشعب الفلسطيني من مجموعات لاجئين ومشردين يراد لهم
الموت والنسيان في شتى بقاع الأرض الى شعب مقاتل على طريق الحرية
والاستقلال يتطلع الى فلسطين بعيون لا تنام وينشد لها كل صباح ومساء ، انه
الإعجاز الفتحاوي والرسالة الوطنية التي حملتها الأجيال جيلاً بعد جيل
وأبطلت بها نظرية الكبار يموتون والصغار لا يعرفون كما ادعى مؤسسي دولة
الاحتلال آنذاك وكما تمنوا طويلا وأكدت على أن فلسطين هي للفلسطينيين فيها
جذورهم التاريخية وفيها يطورون هويتهم الوطنية.
خمسة وأربعون عاماً على انطلاقة حركة
التحرير الوطني الفلسطيني غيرت بها شكل التاريخ وأسقطت العديد من
المؤامرات وصاغت الهوية الوطنية من جديد وحافظت عليها حتى أوصلتها الى
أعلى المنابر وجعلتها القضية الرئيسية الأولى في العالم الذي تنكر لها في
البداية وحاول شطبها وزرع كيان غريب على أرضها التي رفضته وأنجبت رجالا
صنعوا المعجزات وأطلقوا رصاصة الثورة الأولى فكان ياسر عرفات رجلاً من
أغلى الرجال وأعظمهم وقد حمل قضية فلسطين بعنفوان الثائر وحنكة السياسي
منذ أول الزمان وانتصر في كل المنعطفات واستطاع أن يحافظ على وحدة شعبه
واستقلالية قراره الفلسطيني المستقل .
في الفاتح من كانون كانت فلسطين تولد من
جديد على أيدي طلائع الفدائيين العائدين أبطال الدوريات الذين عبروا
الحدود الى الوطن مبشرين بفجر قادم في آخر النفق المظلم ، يزرعون في الأرض
ابتسامة الأمل وتحت أقدام المحتل براكين غضب لا تهدأ.